ومن الأدلة عَلَى أن لفظ الحكم والقضاء قد يستعمل في الجمل الخبرية:
أولاً: أن الكلام نوعان: "خبر، وإنشاء" والفرق بينهما أن الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب، تقول: جَاءَ فلان، ويقول آخر: ما جَاءَ فلان، فهذا محتمل الرد أو القبول يعني: التصديق أو التكذيب.
وأما الجمل الإنشائية فهي التي لا تتضمن ذلك مثل الأمر، كأن تقول: قم يا فلان، فهذا لا يحتمل الصدق والكذب، ومثل الاستفهام، تقول كيف حال فلان؟ فهذا لا يحتمل أن تقول له كذبت.

والحكم والقضاء في الأصل أمر ونهي ويكون في الجمل الإنشائية، فإذا قال الله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:110] (وَأَنْفِقُوا) (((َكُلُوا وَاشْرَبُوا))[الأعراف:31] هذه الأوامر كلها إنشاء.
فقوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[آل عمران:18] هذا خبر، ولذلك يحتمل التكذيب، وقد كذب به الكفار المُشْرِكُونَ وصدق به المؤمنون فهذه الجمل خبرية.

ثانياً: أن المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: فيها الأمر والإلزام وهو متعلق بالجمل الإنشائية، والآية هي جملة خبرية، فهذا إشكال، وحله أن لفظ: "الحكم والقضاء" يأتي في الجمل الخبرية، فإذا أخبرنا إنسان بشيء فكأنه أنشأ فحكم ودليله من القرآن: ((أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[الصافات:151-154] هم قالوا: ولد الله، ولم يأمروا ويلزموا فهذا خبر والله تَعَالَى يقول: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) فهذا الكلام منهم حكم، مثلما قال عن قول الملائكة: إنه شهادة: ((سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ))[الزخرف:19] فكما أن الله سمى اتخاذهم للولد حكماً، لكنه حكم لا إلزام معه، فإن حكم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأنه لا إله غيره وشهادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تتضمن الإلزام والأمر، فتأتي الجمل الخبرية في موضع الجمل الانشائية، كما تأتي الجمل الإنشائية في موضع الجمل الخبرية، وكل ذلك بحسب دلالة المعنى، كما يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ))[إبراهيم:10] فهذا استفهام لكن معناه نفي -أي: ليس في الله شك- وهذا كله مفصل في علم البلاغة.
فهذه الشهادة فيها إقامة الحجة عَلَى العباد حينما يعلمون أنه أعلمهم بذلك، وشهد أن لا إله إلا هو بآياته الكونية وآياته النفسية، وبما أنزل من الآيات القرآنية، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين هذه الشهادة -شهادة أن لا إله إلا هو- بطرق ثلاث هي السمع والبصر والعقل.